إيمان عبد العاطي.. شبيهتي التي أوجعتني

675

خوف عارم من مستقلبي مع البدانة اعتدت الشعور به في طفولتي، ذلك الخوف الذي دفعني إلى فقدان قرابة 30 كيلوجرامًا من وزني دفعة واحدة في الإجازة الصيفية الفاصلة بين الصفين الثاني والثالث الإعدادي، للدرجة التي لم يعرفني معها زملائي في أول أيام الدراسة بالعام التالي، حين وقفوا جميعهم يتبادلون السلامات فيما وقفت وحدي أتعجب المقاطعة الجماعية المفاجئة.

 

شعور خاص جدًا بالمرارة، علمته جيدًا في سن صغيرة، تمامًا كما علمته هي، يبدأ مع تلك النظرة في أعين الآخرين لك كشخص مختلف على نحو سلبي، شخص سمين، منبوذ، يستحق -برأيهم- نعوتًا جارحة من عينة “يا تخينة”، مع تشبيهات لا نهائية بالبقر والجاموس وكل ما ثقل وزنه وخف عقله، حتى خلال اللعب الشروط تختلف، بالنسبة لك كطفل سمين، لا توجد مساحات سماح أو مودة، أنت فائض عن الحاجة، والسماح بوجودك من جانب أقرانك فضل منهم، ومع أول خطأ لن تعود معهم.

 

أعلم جيدًا ما جرى لـ”إيمان” في طفولتها، هو أضعاف أضعاف ما جرى معي، البدانة لا تفقد صاحبها صحته فحسب، تفقده ثقته بنفسه، وحب الآخرين أحيانًا، بل تفقده الحياة وإن طالت المقاومة، كما جرى مع “إيمان”.

 

من بين صورها جميعها تبقى تلك التي تجرأت فيها على وضع مكياج مع ابتسامة زيَّنت وجهها الجميل، الأقرب لقلبي، كانت المرة الأولى تقريبًا التي أراها تبتسم بحق خلال الاحتفال بعيد مولدها الماضي، كانت قد فقدت الكثير من الوزن، وكانت بهية بحق، سعدت كثيرًا وانخرطت في محاولة تخمين أفكارها في تلك اللحظة، هل كانت تفكر في إمكانية الزواج أخيرًا حين تنتهي رحلتها العلاجية، أم تفكر في الشكل الذي ستتخذه حياتها؟ هل خططت لاستكمال التعليم، أم حلمت فقط بعمل يعطيها ذلك الشعور الرائع بالإنجاز والتقدم ولو كان طفيفًا، أم أنها كانت تنوي الخروج لتناول الآيس كريم تحت المطر في شوارع الإسكندرية التي تنتمي إليها؟

 

عشرات الأخبار وردت حول الشابة التي اعتادت الصحف أن تصفها بـ”أسمن امرأة في العالم” فضلاً عن تقارير عدة تحدثت عن حالتها الفريدة من بين الحالات المشابهة حول العالم، اعتدت بحكم عملي المرور على عشرات الأخبار والمواقف المؤلمة يوميًا، لم يستوقفني قط إلا أخبار قليلة للغاية، من بينها تلك بالذات، لطالما أطلتُ التأمل في ملامحها، تخيلت شكلها النهائي إذا فقدت ما تبقى من دهون بجسدها الهزيل، لأجد جواب اهتمامي بها أخيرًا: كانت ستشبهني كثيرًا، تمامًا كما كنت أشبهها في طفولتي إلى حد بعيد.

 

رأيت في “إيمان” نفسي، ومستقبلي الذي خشيته كثيرًا، رأيت فيها ملامحي، تلك البشرة السمراء والملامح المصرية والعين التي تقول الكثير، “إيمان”.. شبيهتي التي لن يقول لي أحدهم يومًا إنه رآها تسير في الشارع، والتي لن يحدث أبدًا أن أقابلها كما تمنيت حين تعود من سفرها الطويل، كان خبر الوفاة صادمًا للغاية وحزينًا جدًا بالنسبة لي.

 

التفكير موجع يا “إيمان” فيما مررتِ به، فكيف بالحياة ذاتها؟! لا أنكر تلك الغصة والمرارة بحلقي في حياة لم تكن كالحياة، لكنني أخيرًا استطعت أن أرى إيجابيات ما حدث، لقد حققتِ يا صديقتي نجاحًا باهرًا، احتملتِ الكثير من الآلام، و قطعتِ شوطًا رائعًا في رحلة العلاج، خرجتِ أخيرًا من التصنيف السخيف داخل موسوعة جينيس للأرقام القياسية كأسمن امرأة في العالم، جلستِ على كرسي متحرك لأول مرة في حياتك، احتفلتِ بعيد مولدك وابتسمتِ، طلبتِ الآيس كريم وتناولتِه، كنتِ سعيدة وجميلة وناجحة فيما لديكِ من اختبار.

 

ما زلت أقنع نفسي أن الرحلة انتهت لأن الطالبة نجحت في امتحانها، وأن القدير اختارها لاستكمال الحياة في واقع أكثر جمالاً وأقل ثقلاً وتلوثًا وقبحًا، عالم يمكنها فيه الطيران والتحليق وتناول ما لذ وطاب دونما حسابات لسعرات او أمراض أو آلام.. فإلى لقاء يا صديقتي التي لم أقابلها قط.

المقالة السابقةتشتري كلب؟ لا.. عايزة آلة زمن
المقالة القادمةفرصة تانية في الأمومة
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا