إلى صديقي الذي لا زال يُنكرني

1244

 

بقلم/ دينا أبو حلوة

 

تحية موجعة وبعد..

ولكن لروحك مني السلام..

وددتُ لو تسعني كلماتي كي أقول إن عقلي قد اشتاق للثرثرة إليك.. ولكن روحي تشعر بأن شيئًا ما قد أُهين بما تبقى منها سليمًا.. شيء بداخلي أراد ثم أنكر أن يقولها لك صراحة، ربما بدأتُ أعي أن أمري ليس بالهام، ولكن ما زال اليقين يتملكني بأنك ستهتم لي ذات مرة.

 

سأكتب إليك لأني أنا من اخترتُ أن ألقبك بالصديق، حتى إذا كان اللقب ينقصه وجودك بجانبي عونًا لي ومهونًا لما تحمله الدنيا.. سأكتب لك لأني منْ اخترت أن أعاني مأساة هجرك لي، وأيضًا اخترتُ أن أحكي لك رغمًا عنك وعني.. نعم لقد مرّ طيفك بخاطري، ليس اليوم ولا أمس ولا غدًا.. فأنا يا صديقي لا أنساك كي أحاول أن أتذكرك.

 

وددتُ لو آتي إليك وأن أُملي على مسامعك كل ما يتمنى قلبك أن يسمعه، ولكن ماذا عن قلبي الذي قد شرع في غيبوبة لا أعلم متى سيعود منها.. نعم لستُ بالخير الذي أستطيع أن أفيض به على نفسي كي أفيض به حتى عليك.. وددتُ لو تكون أنت بالخير الذي أتمنى لو تنثرني منه ولو قليلاً، ومع هذا ما استطعتُ كعادتي الفرار من ضجيج عقلي وأسئلته المتلاحقة التي تشعرني أني أمام رجل يفضح ما تبقى لديَّ من كتمان.. بل ويواجهني بتلك الحقائق العارية أمام نفسي.. فقررتُ أن ألجأ بالحديثِ معك وعنك.. عسى عقلي يهدأ.. أو رثيما يستعيد قلبي عافيته.

 

وددتُ لو آتي إليك لنجلس معًا على تلك الصخرة وأمام ذاك الموج العالي، وكأننا نحتضن الهواء ليبعثر خصلات شعري تارة ويخترق رئتيك تارة أخرى، ونحكي يا صديقي حتى إذا كان الحديثُ لا يحمل سوى صمت، وددتُ لو أحكي عن تلك الفرحة التي تتملكني حين أراك، أو عن تلك الانتكاسة التي تعرضتُ لها بالأمس القريب، وتلك الابتسامة التي حاولتُ مرارًا أن أُحييها من مرقدها الميت في حضرة الحزن.

 

وددتُ لو أخبرك عن تلك الغريبة التي صادفتها يومًا وأردتُ أن أرتمي بين أحضانها لأبكي، كما لم ترني هي مسبقًا، وددتُ لو أقول لها نعم أردتُ يومًا أن أرتمي بين أحضانه فقط كي أُهشم تلك الفجوات العارية بيننا، وددتُ لو أكون له بمثابة أم تحتضن وليدها كي ينأى بالأمان ملاذًا، أو لو أمتلك تلك الجرأة أمام عينيها التي وشت لي حينها بارتكابي جريمة ويجب أن أُعاقب عليها بالحرمان المطلق، وددتُ لو أُلقنها درسًا في عُرفِ الحب، وكيف تحيا الروح في الفراق. ولكن تذكرت أنها الأخرى قد تكون آثمة بصمتها، فتراجعتُ عنها وأصبحتُ ألوذ بصمتي الواهي أنا الأخرى دون أن أرمقها ولو بنظرة.

 

بل وددتُ لو أخبرك عن تلك الصدفة التي قيل لي فيها بأن الإدمان ليس قاصرًا على العقاقير والمواد المخدرة، فالأسوأ إدمان أشخاص ما عاد هناك حيلة لرؤيتهم متى شاءت الروح، ودومًا كنتُ أشكك في تلك الأقاويل، ولكنها كانت الحقيقة.

 

نعم.. لقد اعترفتُ مؤخرًا وأخيرًا بالسر الذي يأسرني، وقلتُ لها إني قد أدمنتُ رؤيتك وما عاد بوسعي الإقلاع عن ذلك، واعترفتُ أني قد آذيتُ نفسي حتى بتُ أستحي منها.. وأخيرًا هرولتُ إلى تلك العجوز جدتي لأرتمي بين أحضانها بعد أن وهنت قوتي، بعد أن حاولتُ مرارًا أن أتعوّذ من الشيطان الرجيم بكل ما يحمله لي من سوءِ ومعاصِ، وما كان لي سوى ذراعيها تنفتح على مصراعيها.

 

فَأشفقَت على صمودي وقوتي الواهية أمامها وقالت لي: قد يأتي وقت نرى تلك الهفوات الصغيرة التي نرتكبها في حق أنفسنا في حجم حصى تحملها الرياح وتتطاير بها، ولكن مع مرور الوقت لا ندرك كيف أصبحت تلك الهفوات بهذا الحجم الذي قد يقودنا إلى الهلاك.

 

قالت لي: “أما أنتِ باطنكِ طاهر ونقي، بل إنكِ امرأة قوية وعصية إذا ما حاول الآخرون تهميشها.. ينتابك الضعف ليبكيكِ كسائر البشر ولكن سرعان ما تأتي لحظة تنهضين فيها بكل ما أوتيتِ من حِيل الإناث اللعينة.. فقط لتعلني الحرب حتى إذا كانت هي الحرب على ذاتك.. فكفى بإلقاء اللوم عليها”.

 

وأخذت تربتُ على جسدي الهزيل المرتمي بين أحضانها، والدموع تنساب من مقلتي كشلال جارف قد وجد طريقه كي ينهال من مكانِ عالٍ، ليحمل معه تلك الأوجاع التي ترسبت حتى أصبحت أشبه بحجارة قد شارفت على أن تتفتت جزئيًا.

 

وددتُ أيضًا لو أخبرك عن خيبة أمل إحدى رفيقاتي في حبها الذي طالما انتظرته طيلة سنوات.. بل أنه كان لها طوقًا لنجاةِ قلبها، ولكن انطوى ذاك الأمل على مجرد خزينة من الأوجاع ارتمت بذاكرتها هي الأخرى، بل عن رفيقتي الأخرى التي التمعت عيناها بتلك الابتسامة أثناء خطبتها بمن تمناه قلبها.. نعم أعترف أنها تكبره بأعوام، ولكن مع هذا كانت نظرته لها كفيلة كي تثير غيرتنا جميعًا.. حينها فقط كانت هناك علامة ثانية رسخت في ذهني، وهي أن الحب لا يٌقاس بعدد الأعوام، بل بمدى بقاء الروح في حضرة كلا الطرفين، نسيتُ ما كان في قلبي من عتب، وتناسيتُ دموعًا ولَّت ودموعًا حبيسة، تناسيتُ كل المسافاتِ بيننا.. جُّل ما كان باستطاعتي حينها هو الأحلام فقط، وأمنية ما زالت تسعى إلى مبتغاها، ولحظات كهذه وكلانا في حضرة السعادة.

 

أنهيتُ اليوم بسكينة امتلأت بها خزائن روحي.. أيقنت أنه ما يفعل بنا إلا الخير.. عاهدتُ أن أكون كما أنا ولا أضل الطريق مجددًا، أن أظل على العهد ما دمتُ أحيا، وأن أفيض على روحي الثائرة بالكتابة طالما أن بها بعضًا من وقود سعادتي الذي يعيد لي نفسي إذا تاهت عن دربها.

 

وأخيرًا.. قررتُ أن أعيد على مسامعي تلك المقولة لأجدد بها قوتي “أنا لستُ ممن تهزمهم المسافات، ولا من يدفعهم الفراق إلى التنحي عن الوصال متى شاءت الروح.. فليسعَ كل منا إلى ما هو ساعٍ إليه، وليبقَ الله هو خيرُ شاهد”.

 

الإدمان ليس قاصرًا على العقاقير والمواد المخدرة

 

المقالة السابقةخمس خطوات للوصول لـ”كود الرجولة”
المقالة القادمة16 سبب يخلوكي تتمني تكوني راجل
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا