أوتوجراف

1825

كاميليا

في المرحلة الثانوية أحضرت أوتوجرافًا أزرق لامعًا يحتوي على صفحات ملونة، وأحضرت معه عبوة أقلام فسفورية للكتابة،
كانت حينها الأوتوجرافات وكروت أعياد الميلاد وصفحات الكشاكيل المدرسية هي الأشياء الوحيدة التي نوثِّق بها ذكريات
الدراسة والأصدقاء، كنت ولا زلت مهووسة بتدوين كل شيء كتابة وتصويرًا، كل من مر عليّ كتب لي في أوتوجرافي
الأزرق، عبارات حماسية ملونة ومزينة بالقلوب الحمراء.. جميعهم كانوا يبدأون بـ"صديقتي العزيزة" ثم الكثير من وعود
الصداقة والمحبة، وينهون عباراتهم بتوقيع "صديقتك للأبد". إلا صديقة واحدة لم تكتب، لي لأنها لا تقتنع بهذه الطريقة لتدوين
المحبة والصداقة، غضبت حينها واعتبرتها لا تحبني كالآخرين.
بالصدفة وقع بيدي الأوتوجراف مرّة أخرى منذ أيام، قرأته سطرًا سطرًا، وبنهايته أدركت أن كل أصدقائي الأعزاء جدًا ليسوا
هنا الآن، حتى أكثرهم حميمية وقربًا حينها، اختفوا تمامًا أو في أحسن تقدير ابتعدوا.. إلا واحدة، تلك التي رفضت، "سارة"،
صديقة العمر التي لم تكتب وتركت صفحتها خالية رغم إلحاحي الدائم.. ورغم أنها ظلت على الوعد، صديقتي العزيزة للأبد
دائمًا. لقد كنت مُحقة في اعتقادي، لم تحبيني كالآخرين.. بل كـ"سارة".
إلى عزيزتي التي لم أخبرها يومًا:
سلام يا "سارة"، أعلم أنكِ لا تحبين اللحظات العاطفية المليئة بالعبارات المؤثرة، كنتِ ولا زلتِ مختلفة، تخبريني وتعلمينني كل
شيء عن الحب والاهتمام والصداقة، وحتى الدين بطريقتك البسيطة المتفردة جدًا.. لكنني اليوم، رغبت من أعمق خلية صدق
بقلبي أن أخبرك بطريقتي الوحيدة التي أتقنها كم محبتك لديّ، وأن أوثق هذه المحبة حروفًا تبقى عندما أرحل من العالم.. أكاد
أسمعك تقولينها بطريقتك المعتادة الساخرة "ومين هيقرأ لما نرحل يعني؟".. لا يهم، يهمني أن تعرفين الآن مقدار محبتك
داخلي، لن أنتظر حتى ينتهي العالم وتظل عادتي اللعينة في كتمان المشاعر تلاحقني كبقايا أطباق طعامي التي لم أنهِها يومًا.
أكتب الآن لأنني ببساطة لم أخبرك يومًا بأثرك الكبير هنا.. في القلب.

لم أخبرك في أول مرّة كنتِ تحاولين تعليمي ركوب الدراجات، أن أحدًا لم يثق في قدرتي لهذا الحد من قبل، كنت أراوغ وكنتِ
تُصرين، حتى بعد أن تحطمت دراجتك وأُصيبت قدمك بسببي، كان لديكِ إصرار أكثر مني أنني سأتعلم يومًا ما.
عن تلك الأسابيع التي لا نتحدث بكلمة، لنعود للحديث عند نفس النقطة التي توقفنا لديها بنفس الحماس والشغف، دون عتاب أو
لوم أو أسئلة مُرهقة.
عن رفقة عشرين عامًا مليئة بذكريات طفولة ومراهقة وأمومة.. ذكريات لم تدوَّن بمفكرتي الزرقاء، ولكنها حُفرت بقلبي، حتى
أنني أظن أن فقدان الذاكرة لا يستطيع محوها، صارت جزءًا مقدسًا من حديثنا في كل مرّة نتجول بشارع مدرستنا الابتدائية
والثانوية والجامعة.. نحن هنا ونعرف أننا هنا لبعضنا بعض ويكفي.
أكتب اليوم عن جرعات السكينة والضحك المجانية التي تهديها لي، كقطع بنبون بطعم النعناع في عز الحزن والوجع والخذلان
من الآخرين.. "أنا زهقانة، يلا ننزل".. يكفي أن أرسل لكِ هذه العبارة لنتجول بعدها في شوارعنا المفضلة بلا هدف وبلا حديث
أحيانًا.. ولكننا نعود وكأننا اغتسلنا من الهموم في بئر زمزم.
عن لحظات الدعاء الصادقة والنصائح الدينية التي لا تخيب.. تجذبيني دائمًا من على الحافة دون أن تدري يا "سارة"، يقولون
إن الصديق هو الأخ الذي تختاره بإرادتك الحرّة، أتمنى لو يصبح لـ"فريدة" يومًا صديقة أخت مثلك.
عن مرات أولى كثيرة كنتِ هنا ملاكي الحارس، وكنت أنا الصديق المندفع بغباء يُحسد عليه، ولم تكوني أبدًا من فئة الأصدقاء
التي تضحكني وتضحك الناس عليّ، رغم ضحكاتنا التي تسبقنا في كل مكان، كنتِ تقفين أمامي لأستفيق، كل مرّة تفعلينها
بتلقائية ولا تدركين أنكِ استثنائية.
عن كل قراراتنا السريعة الصحيحة والمتأنية الخاطئة، وخطواتنا العشوائية الصادقة، وقطع الشوكولا التي تحضرينها لي رغم
أنك لا تحبين الشوكولا من الأساس.
عن ألبوم صورنا العشوائية الرائعة، وتحمُّلك لصديقة تختلف عنكِ في الطباع كثيرًا وفي الاهتمامات أكثر، عن صديقة مثلي
مزاجها دائمًا على الحافة.. كقطع البازل نكمل بعضنا بعضًا صرنا.
عن كل الأوقات التي كنتِ فيها سندًا دون أن أطلب ذلك، في ذلك اليوم عندما ذهبتِ معي للطبيب في أكثر أوقاتي ضعفًا ووهنًا،
أضفنا ذكرى أخرى لا تُنسى لصداقتنا، رغم تظاهري بأن "كله تمام أنا كويسة"، أسندتِ يدي بضحك حتى المنزل، لأنكِ
تدركين أنني لست أبدًا على ما يرام، كنتِ ذلك السند يا "سارة"، وكنت كُلي يقين أنني لن أقع.. فاستندت.
لا زال لدينا متسع من الوقت، ذكريات أكثر مع "فريدة" وأطفالك، نزهات مجنونة وقرارات أكثر جنونًا، ضحكات وصور لم
نلتقطها وأكلات لم نتذوقها بعد. الآن أدرك رغم ما أزعمه عن صحة قراراتي الدائمة معك، أنكِ كنت دائمًا على حق يا "سارة"
في عدم كتابتك بأتوجرافي الأزرق اللامع.. لأنكِ صنعتِ بنفسك واحدًا بعدد أيام العُمر.
شكرًا لأنكِ أهديتِني صفحة بيضاء لم تملئيها يومًا بأي عبارة عاطفية عابرة، فبقيتِ أنت وعبر الآخرون بأكملهم، بينما ملئتِ
عمرًا كاملاً بحضورك الذي لم يخطئ التوقيت أبدًا.
صديقتك للأبد..

المقالة السابقة5 أعوام أمومة بين الحلو والمر
المقالة القادمةمن وأنا في 3 ابتدائي
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا