أوائل الحاجات

600

في بداية فيلم “Miss Potter”، كانت “بياتريكس بوتر”، المؤلفة اللي عملت عالم الأرنب “بيتر” وإخواته، وأصحابه القنفد والبطة العبيطة “جيمايما”، بتقول:”فيه شيء شهي جدًا متعلق بكتابة أول كام كلمة من القصة، لأنك متعرفش هياخدوك يودوك على فين. قصتي جابتني هنا، للمكان بتاعي”.

 

بالنسبة لي، لسة حكايتي بتبتدي، ومعتقدش البدايات خلصت. بس 2018 كانت مدهشة على أكتر من مستوى، ومليئة بأوائل الحاجات اللي أغلبها كان “شهي جدًا”، زي:

 

1- أول مرة “محمد صلاح”

أنا فاكرة كويس إني سمعت اسمه السنة اللي قبلها، بس مهتمتش خالص. كنت غرقانة في بحر تعاسة مش قادرة أرفع راسي منه، لكن مع بدايات السنة دي ومع الاستقلال، شوية بشوية أخدت بالي إن فيه ظاهرة بتحصل: طب هو بيعمل إيه؟ يعني إيه لعب كورة أساسًا؟

 

ابتديت أقعد مع أخويا الصغير (24 سنة وأطول مني، بس هيفضل حمادة)، وهو بيشوف الماتشات، وأحاول أفهم منه من غير ما أعصّبه بأسئلتي، وحاولت أقرا شوية خصوصًا عن النشيد “لن تسير وحدك أبدًا” المميز لليفربول، وارتبطت جدًا بيه وبالمدرب، الكهل الوسيم أبو جاكيت تقيل وحماس مش بيخبيه ونضارة وبيعرف يحضن كويس، وبقيت بتابع الماتشات.

 

جات مباريات كاس العالم بقى اللي أتأهلت ليها مصر: أول مرة أشوف حدث بيتابعه الناس كلها تقريبًا، أبقى في البيت سامعة صوت الناس من على القهوة وفي البلكونات والشاشة الكبيرة اللي اتعملت مخصوص في الشارع، حماس وشتيمة وعصبية ونرفزة. بكلم صحابي معجبين جدًا بالولد الجديد حارس المرمى، ثم “لأ مش معقول هينزلوا عصام الحضري”. ثم الإحباط العظيم. 

 

عيطت كتير ودخلت في نوبة اكتئابية عنيفة، كتبت على المدونة “أريد أن أرى شيئًا حلوًا يحدث، أن أعرف أن هناك من يأمل فتتحقق آماله”، وناس كتيرة أمّنت على كلامي. اعتزلت الإنترنت لحد ما الخناقة والتنظير والشتيمة هديوا، بعدها الحياة رجعت لطبيعتها: إحباط على خفيف.

 

شفت الفيديو اللي صلاح كتفه اتخلع فيه، قلبي وقف ومصدقتش اللي بيحصل. يطلع المدرب بصوت بيحاول إنه ميعيطش يقول إن مفيش حاجة لسة مؤكدة، أقفل الفيسبوك والنور وأحبس نفسي في الأوضة: أخويا بقى عصبي جدًا فجأة ومتنح في نفس الوقت. أعرف بعدها إن “إذا كانت الرجالة ع القهوة عيّطت.. عيّطي براحتك” فأستريح جدًا.

 

الأسبوع اللي فات ليفربول بيلعب مع بورنموث، الدنيا برد جدًا وبتمطر و”صلاح” لابس تي شيرت بكم طويل تحت تي شيرت الفريق، وعصبي وباين عليه الإرهاق. سجّل هدفين، وفي الدقيقة 77، والزهق باين على ملامحه والبرد، أخد الكورة وعدّى بيها يمين وشمال من لعيبة الفريق التاني ونط فوق الحارس وتجاوز اللي جم وقفوا في نص المرمى، وحطّ جون.

 

أنا شفته وطلعت أجري أكلم أصحابي: “صلاح جاب جون صلاح جاب جون!”، قلت لصاحبتي “إذا كان كل الإصرار والحماس ده فيه رغم إنه بردان ومرهق وقرفان وفي الآخر وصل، يبقى أنا ممكن أعمل زيه وأوصل كمان، ولا إيه؟”.

 

2- أول مرة استقلال

الناس يا مؤمن يقعدوا يقولولك “هتقعد لوحدك ليه وهتستحمل الوحدة إزاي، والبلد دي أحسن من غيرها”، ويخوفوك، وفي الآخر تقعد لوحدك برضو، فتنبسط.. سبحان صانع الأعاجيب!

بعد كفاح وتحايل على الظروف والأشخاص والحاجات، بقى ليَّ شقة لوحدي. محندقة جدًا وكل حاجة مفتحة على بعضها والحمام كان جوة المطبخ، الإحراج كله لو حد زارني، وحرّ جدًا ومفيهاش عفش تقريبًا، بس كانت “بتاعتي”.

 

يسألني الروائي أ. علاء خالد الأسبوع اللي فات (أيوة أنا قابلت علاء خالد بنفسه): “وإحساسك كان إيه ساعتها؟” فقلتله بحماس إني كنت بطبخ بنفسي وببسطني بالأكل.

تقريبًا أحبطته الإجابة أو مكانش مستنيها، بس أنا كملت: “أنا كنت بعمل أكل حلو جدًا، بصحى الصبح مقفولة وجعانة جدًا بس برضو هستنى لحد ما أعمل فطار حلو وشكله جميل وملوّن، كان ساعتها موسم الفلفل الألوان والحياة تعد بالكثير، وبعد كده أقعد آكل. كان كل حاجة حتى لو مكررة، ليها طعم جديد ومقدراه جدًا، تقدر تقول إن غبار الاعتياد أو الحياة اليومية المملة، أول ما اتشال، الحاجات البسيطة العادية بقيت حلوة بشكل مكنتش متخيلاه”.

 

كانت المساحات ملكي والفضاء ملكي، وشوية كنت هقف في البلكونة أزعق “هذا البحر لي.. هذا الهواء الرطب لي”، بس افتكرت آخر القصيدة “أما أنا فقد امتلأت بكل أسباب الرحيل، فأنا لست لي” ومعملتهاش، رغم إني -لأسباب ملهاش لازمة- سبت البيت ده بعد كده، وبقيت فعلاً “ممتلئة بكل أسباب الرحيل” على رأي محمود درويش.

 

قررت ذاكرتي إنها تمسح الشهور اللي قعدتها في بيتي، بمجرد عودتي لبيت أهلي، لكن مؤخرًا وفي أوقات مخادعة تمامًا، بتهاجمني لحظات تسلل ضوء الشمس في فجرية أحد أيام رمضان، ووقوعه على المكتبة المقابلة للشباك، النور الأزرق اللي معرفش جاي منين وملا غرفة المكتب وأنا قاعدة آكل وعيني مدفوسة في شاشة اللاب بتفرج على فيلم، وفجأة رفعت راسي فشفته، ريحة الموتزاريلا السايحة اللي لسة خارجة من الفرن حالاً وتحتها العيش المتحمر في الزبدة وفوقيها ليمون جاي من أمالفي في إيطاليا، معصور وباكله بقشرته، فروع النعناع القوية الجاية من زرعة البلكونة، الزرعة اللي قاومت 3 عواصف ترابية شديدة الحرارة ثم مستحملتش نقلتي لبيت الأهل، مكوثي في السرير دقايق زيادة بعد ما أصحى من النوم، والدنيا ضلمة جدًا لأني قافلة الشباك والشيش وحاطة ستاير تقيلة، وأنا بفكّر إن اللحظات دي أثمن من إنها تتقاس أو تتساب، وإني بعيش أوقات في منتهى الجمال، ممتنة عليها، أنوار شجرة الكريسماس والشقة ساكتة لأن مفيش إنترنت وبرد جدًا لأن مفيهاش عفش، ومع ذلك مبسوطة.

 

دلوقتي بشتري باكيت اللازانيا وبعمل عصير برتقال، بحركات آلية، بعد كده بفتكر إني كنت بعمل كده بالضبط في بيتي، وأبتسم. بشكل ما الحزن على تركه ابتدى يتنحى تمامًا ونَهائيًا، وأبتدي أفكّر أنا ممكن أعمل إيه عشان أبني واحد تاني زيه وأجمل منه كمان.

 

3- أخوية الترامبولين

فجأة بصيت على حياتي: فيها أصحاب قليلين جدًا! إيه ده اللي بعمله في نفسي ده؟ ينفع كده؟

ابتديت مجموعة رسايل، بكتب أشياء وأحداث جوانية جدًا، بس ينفع تتقال بشكل ما يعني، وأبعتها لمجموعة مختارة بعناية من الأصدقاء، والمعارف اللي عايزاهم يبقوا أصدقاء. ردود الفعل كانت في منتهى الجمال والعَجَب، اكتسبت صداقات جديدة، وقويت علاقتي بناس كانوا موجودين قبل كده بس على الحياد. تورطنا كلنا في وجود قوي، بحيث بقينا زي اللي بيمدّوا دراعاتهم على اتساعها عشان يلحقوا حد بيقع، وبدل ما المشهد يبقى مأسوي، الحدّ ده ممكن يتنطط على الدراعات، كل ما بيعلى بيقوى وبيشدهم معاه، وكلنا في الهوا ساندين بعض.

 

الأخوية دي ساعدتني بشكل يفوق التوقع في لحظات قوية وعصيبة من حياتي، وفاة ونقل وارتباك واكتئاب وألم، ضحكنا كتير جدًا وعيطنا مع بعض كتير. لاقيت إني بقدر أعبّر أكتر بالكتابة، طب ما أكتب؟ بعد كده بنتقابل، هو ممكن أعبّر عن اللي عايزاه بالكلام فعلاً؟ آديني بحاول. كتير منهم وجوده كان جوهري في نضجي العاطفي والعقلي، وده مش كلام إنشا، وبعضهم ساهم في أهم التغيرات اللي حصلت ولسة بتحصل لي، لأن الحياة الجميلة اللي أنا عايزاها لسة متحققتش، لكن بنعملها سوا. ده جميل جدًا ومدفئ للقلب بشكل لا يمكن تصوّره.

 

فيه أوائل مرات تانية كتيرة

زي أول مرة وفاة ضخمة ومزلزلة لما مشي د. أحمد خالد توفيق، وكمان حازم دياب مشي، ولسة مش عارفة أتصرف إزاي، لكن الأصدقاء كانوا موجودين الحمد لله لتهوين وقع الأمور علينا كلنا.

وفيه أول مرة أحب نفسي وأبطّل أبكتها وأعنفها على حاجات مش في إيدها أصلاً.

وأول مرة أطبخ حاجات كتيرة وحلوة جدًا.

وأول مرة اهتمام بالمكياج ومعرفة أنهي بيتحط فين وقبل إيه.

وأول مرة كتب صوتية، هاري بوتر طبعًا.

وأول مرة إحساس بالمسؤولية وأمشي أطفي النور ورايا وأعيد استخدام الحاجات ومرميش العلب الفاضية.

أول مرة المسرح الكبير في الأوبرا والشياكة وإحنا نازلين.

 

حاجات كتيرة جدًا وحلوة جدًا حصلت في 2018، ممتنة لها للأبد، لكن مساحة الكتابة انتهت ولازم أقفل حالاً.

يمكن لسة مبقيتش في المكان بتاعي يا ست “بياتريكس”، بس الأكيد إني حاسة بالبدايات الشهية، واللي بتدفعني للتكملة عشان أوصل.

المقالة السابقةسنة أولى أم العيال
المقالة القادمة2018 عامي الذي لن يتكرر

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا