أنا قادمة من هناك

646

 

بقلم/ مي مصطفى

 

عندما تزور القاهرة أوّل مرة تُدهش بها، تشعر على الفور أنك في بقعة تضج بملايين الأشياء في الآن ذاته، تقع في غرام شوارع وسط البلد وتسحرك اللافتات الإعلانيّة الضخمة التي لا تراها في محافظتك. حتى وإن لم يعجبك ازدحامها المُنهِك، لا بد أن تقع في غرامها من ناحية ما.

 

في بداية قدومي للقاهرة، كنت أتعامل مع كل شيء بدهشة شديدة، كان من السهل على “ولاد البلد” أن يدركوا فورًا أنني غريبة عنها، كائن غريب لا يدرك الفرق بين اتجاه الجيزة واتجاه شبرا في المترو، ويتأكد من تفاصيل وجهته ألف مرة، وليس لديه أدنى دراية بقواعد التعايش البديهيّة هنا، كأن عليك مثلاً إن كنت ستنزل من الحافلة، أن تنهض من مقعدك قبل وصولها لمحطتك المنشودة بدقائق وتتوجّه نحو بابها الأمامي، لأن “الأوتوبيس مش هيتعطل بالناس اللي فيه عشان سيادتك يعني”.

 

تفاصيل المواصلات العامة وازدحام الطرق من الأشياء اللافتة جدًا هنا، لا يمكنك ألا تلحظها على الفور. من اللحظات الفارقة في تعاملاتي والتي لن أنساها أبدًا، عندما أحرجني أحد سائقي الأتوبيسات أمام جمع من الركّاب الكرام حين تأخرت في الوصول للباب الأمامي، لامتلاء الأتوبيس عن آخره بأكوام متلاحمة من اللحم البشري الفاخر، حينها صاح بأعلى صوته موبِّخًا ومتهكمًا في الوقت ذاته “شدي حيلك شوية يا أستاذة، مش ناقصين عطلة، مش كنتي قومتي من بدري!”. لم يترك لي أي مجال لأوضح أنني جديدة في هذه المدينة، لم يلفت انتباهي أحد لهذه المهارة -الشديدة الأهمية- التي تتغنّى عنها سيادتك.

 

كانت تلك هي المرة الأولى التي تُهان فيها كرامتي في مواصلة عامة بهذا الشكل، وسط جمهور لا بأس بعدده أبدًا، إن كنّا في حدث اجتماعي أو ما شابه. أتذكر أيضًا، أنني ترجلت من الأوتوبيس وانفتحت في موجة من البكاء الشديد، كمن فقد صديقًا مُقرَّبًا للتوّ.

 

كنت أفكر.. يا إلهي! ألا يدرك هذا الرجل كيف يكون الأمر شاقًا ومربكًا على فتاة تريد الخروج من ممر أتوبيس مليء بحشد هائل من الرجال بأٌقل الخسائر، كألا تلتصق بأحدهم مثلاً؟! كيف لا يستغرق الأمر وقتًا والحشود متراصة على الجانبين وحتى في المنتصف بهذا الشكل؟! هل الأمر طبيعي هنا إلى هذا الحد؟! ثم كيف واتت عديم الإحساس هذا الجرأة لكي يحدثني هكذا؟! في لحظات كهذه تدرك الواحدة منّا كيف تفقد جملة كجملة “استرونج اندبندنت وومن” بريقها بعض الشيء.

 

مرّت الأعوام وألبستني القاهرة لباسها في العديد من الأشياء، قهرتني وأنهكت طاقتي مرات ونصفتني مرات، تشربت منها الكثير، ولا أعتقد أنها تشربت منّي أي شيء. ففي النهاية لا يُعقَل أن تتغيّر مدينة عريقة كالقاهرة من أجل فتاة عشرينية مثلي.

 

المهم أنني بِتُّ أقل حساسية وأكثر عملية في العديد من الأمور. بت أعلم الفرق بين اتجاه الجيزة وشبرا في المترو، وبت أسير مسافات طويلة جدًا وحدي دون السؤال ألف مرة عن وجهتي، لكنّي لم أكف يومًا عن السؤال.

 

في السابق.. كنت أنظر للأشياء وأصفها على أنها من هنا أو هناك فقط، كأنه لا يوجد خط وسط أو شيء مشترك بين المكانين معًا. كنت متمسكة بذاتي وبالتكوينات الأولى في شخصيتي، ثم أدركت أن هناك عاملاً مشتركًا، هو أنا. أدركت أيضًا أنني ربّما أكون قادمة من هناك لكنّي لم أكن لأكتب هذه المقالة لو أنني ما جئت هنا.

 

ألبستني القاهرة لباسها في العديد من الأشياء

 

المقالة السابقةفقط.. كنت أحتاج أن أُدلل
المقالة القادمةالقاهرة – غزة 3 : بعدك على بالي
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا