أنا جميلة يا تيتة

1590

رزان

 

أقف أمام الحلة منتظرة أن يغلي المرق مع الثوم لإضافة الملوخية إليهما، وأتذكر أني “عمري” ما صنعت حلة ملوخية جيدة. أتذكر جدتي لأمي رحمها الله، وهي تلوي شفتيها تعبيرًا عن اشمئزازها من الملوخية “الساقطة”، أي التي انهار أغلب ورقها المقطع دقيقًا لقاع الحلة، بينما المرق يعوم منفصلاً عنها على الوجه. كنت أعلّق بيني وبيني أننا إذا حرّكنا المحتويات ستمتزج معًا وتصنع ملوخية لم تسقط بعد، لكني لم أتكلم. هذه هي حالي مع أغلب الأقارب، الصمت التام. تؤمن جدتي بأني لو لم أطبخ جيدًا لن أجد زوجًا. وماذا عن الحب يا تيتة؟! حب في عينك، بلاش قلة أدب!

 

يؤمن أقاربي بأني لست جميلة، وأن جسدي الممتلئ شيء تنهار له الجبال ويستحق شهقات تلي السلامات، ثم إبعاد جسدي بطول أذرعتهنّ لتفحصي بدقة، ولا مانع من “اللّف” لتكون لديهم الصورة ثلاثية الأبعاد، ثم تنهال التعليقات التي أعتبرها مسيئة جدًا. أشياء من نوع “بس إنتي كنتي سمباتيك قبل كده” مع ابتسامة صفراء ملتوية، و”إنتي إزاي سايبة نفسك كده؟” و”ما تعملي ريجيم وتلعبي رياضة؟” وأنا أكاد أصيح بوجوههن إنه “ما هو مش بمزاج سعادتك!”. لديّ مشاكل مع الرياضة. يشعرني الركض وتزايد نبضات القلب بأني مهددة بالخطر، ويعيد لي ذكريات الاشتباكات والهروب للنجاة بحياتنا. لماذا العذاب إذن؟ يعجبني جسدي هكذا، ما لكم وما لي؟!

 

تيتة.. كان بها سُمرة خفيفة وشعر أسود عادي وعينان بنيتان. لم تكن مثل باقي إخوتها بعينين خضراء وبشرة بيضاء وشعر أشقر. تقول دائمًا إن لها جدًا شاميًّا، أتى مخصوص من ريف الشام ليكوّن أسرة له في مصر. في نوبات النسيان والتذكر، كان جدها آتيًا من تركيا، وتزوج من سيدة راقية من الريف. لا أذكر الكثير عن والدة جدتي إلا أنها كانت قاسية جدًا، وكانت تعاير جدتي بأنها “سودا ومش هتتجوز” وتأمرها دائمًا بأن تقوم لتخدم إخوتها الذكور لأنها ليست جميلة. لم تعارض جدتي، لكن هذا أورثها قساوة ولسانًا حادًا ناقدًا وعينًا لا ترى الجمال في التفاصيل العادية. 

 

كنت حينما أزورها في بيت العائلة، نطلع أنا وأمي لشقة أخيها، خال أمي وزوجته، ونسلّم عليهما قبل الطلوع لشقة تيتة. تسألني حينما تراني: “شفتي حسنات؟”.

أيوه يا تيتة.

وبعدين؟ شكلها عامل إزاي؟

(أنا بسذاجة طفلة ما زالت) شعرها مفرود وفيه تمويجات بسيطة، وقعدت تضايف فينا وتجيبلنا شاي وبسكوت و…

(تقاطعني) تعرفي؟ حسنات دي أكبر مني، ومتعلمتش ولا راحت مدارس، ومشتغلتش.

وأنا أسكت تمامًا عالمة بأني قلت شيئًا فادحًا.

 

لأمي نصيب أيضًا. لم أسمع جدتي تقول لها يومًا بأنها جميلة، أو أن شعرها “معمول حلو”. لم أسأل نفسي هل أمي جميلة أم لا، لكني مؤخرًا جدًا ولظروف سفري معها بدأت أقبلّها قبل أن تنام وأقول لها تصبحي على خير وأقفل النور. ألاحظ شبه بسمة على شفتيها الرفيعتين نتيجة القلق المستمر، وأقنع نفسي بأنها “أكيد انبسطت”.

 

لأختي نصيب. كانت أمي التي ورثت النقد من جدتي تأمرها بألا تضحك لأن فمها كبير و”عيب” تظهره، وألا تضحك بصوت عالٍ لأن أيضًا “عيب” صوت البنات يطلع. حسنًا، كبرت أختي ورأت جوليا روبرتس في فيلم قديم نسيت اسمه لكنها نادت على أمي وقالت بصوت متحدٍ: ما هي بقها كبير أهو! حد قالها متمثليش؟ فتلوي أمي بوزها وتقول بأننا لا نأخذ مثلنا العليا من أمريكا. كبرت أكثر وسمعت منير يردد “غُنا البنات في الليل.. بيكره الحرّاس”، فابتسمت لعلمي أن أحدهم متواطئ معنا على كراهية المنع والحجب والتغطية والكبت.

 

ظلت أمي تكرّهنا في أجسادنا: غطي، ميبانش. بدءًا من تغطية وجوهنا لما كنا في بلد يسيء معاملة قاطنيه، قادتنا حاجتنا لنقود نفطه للعيش فيه، وكنا بعد صغارًا جدًا، مرورًا بتطويل البلوزات -قبل موضة التونيكات الطويلة- فكنا “عجبة” وسط زميلاتنا أثناء انتشار الجينز في التسعينيات، وكنا لا نرتديه لأننا لا نريد “التشبه بالأولاد” والتشبه حرام وكده. لم ينته الأمر، حتى اليوم، لم ينته أبدًا. ولا أظنه سيفعل.

 

عندما قرأت “وليه عايزاني انكسف من جسمي يا عديلة؟” بكيت. أو، حسنًا، دمعت عيناي. كأن من الطبيعي ألا ننكسف من أجسادنا! ماذا كانت تقصد لطيفة الزيات تحديدًا، حينما وضعتني أمام ما اعتقدت فيه طويلاً لدرجة القانون؟ ماذا أرادت من تنشيط القضية في عقلي، ودفعي للتفكير في شيء يغيرها؟

 

جسدي.. هنا قلب تحملني حتى في أيام صعبة ظننت فيها الموت أقرب إليّ من أنفاس اللحظة التالية. هنا مفصل وِرك به عيب غير ملحوظ لكنه يثير التهابات مؤلمة حقًا. يحتاج للعناية والدفء والكثير من الحُبّ. هنا يدان تستطيعان النقر على أحرف لوحة المفاتيح بسرعة محسوسة، فصرت أميل رأسي لليسار لتنزل الكلمات عليهما، فيكتبانها. هنا غمازة تظهر في خدٍ وتختفي من الآخر فصرت أبتسم بجانب، لكن مؤخرًا تعلمت ابتسامة واسعة تظهر حتى أسناني غير المتساوية، والتي علمتني أمي -أيضًا- أن أكرهها، وصرت أعاكسها فآمنت بأنها جميلة هكذا، وصرت أعزّ بشكل خاص الذين أسنانهم فيها اختلاف، لدرجة أني عينت أحلى ابتسامة في الكون لصديق لي يشبه أخي: لديه سنّة صغيرة تظهر مع الابتسام. هنا شعر يحتاج القليل من الرعاية. طب وبعدين؟ هذه هي المعطيات، وما الحل؟

 

الحل أننا كلنا كبرنا ونجحنا. أمي صارت طبيبة ذات علم وخبرة كبيرين، ومعطاءة جدًا، وتحب أطفالها كلهم جدًا. أختي صار لها شركة، ناشئة نعم وما زالت في البداية، لكنها مؤمنة بنفسها جدًا ومثابرة، والأشياء الطيبة تحدث للمثابرين والمؤمنين بأرواحهم. وأنا، سيُنشر أول كتبي في نوفمبر القادم بإذن الله، وأعمل على الثاني، وأعرف أني جميلة هكذا، فقط لو تذكرت أن أبتسم، وأن أعالج روحي من وقت لآخر، وأحافظ على قلبي فتيًا وسليمًا من الضغينة.

المقالة السابقةلماذا يتزوج الرجل؟
المقالة القادمةأفضل الأطباق الجانبية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا