أنا أكثر أمومة أم نيكول كيدمان؟

737

ياسمي

 

يقولون إننا نحن معشر النساء جئنا لهذه الدنيا أمهات بالفطرة، فمنذ الطفولة المُبكرة جدًا تتعامل البنات الصغيرات مع عرائسهن باعتبارها بناتهن، وحين تُنجب أمهاتهن طفلاً جديدًا سرعان ما يُمارسن معه الدور نفسه أيًا كانت أعمارهن. باعتباري أمًا يُمكنني أن أقول إن هذا حقيقي إلى حدٍ كبير، ولكن هل يعني ذلك أن هذه القاعدة تخلو من الاستثناء وأننا جميعنا خُلقنا كذلك؟

 

لا أظن ذلك، ليس عن تخمين ولكن عن تجربة، فأنا شخصيًا لم أحب يومًا اللعب بالعرائس، ولم أتطلع كي أكون أًمًا أو أتحمس للعب هذا الدور، لم يكن الأمر نظريًا فقط، بل وعمليًا أيضًا، إذ وصل حَد الدعاء مرارًا -عن اقتناع- ألا يكتب الله عليَّ الأمومة. وحين أحببت صارحت الرجل الذي اخترته برغبتي في تأجيل الخلفة لأجل غير مُسمى، وسعدت جدًا حين وافقني الرأي، لأتزوج وأظل على موقفي ثلاث سنوات، قبل أن تُناديني نداهة الأمومة فأتبعها بإرادتي ورغبتي الكاملة فأصير أمًا.

 

لكل ما سبق.. أؤمن أن هناك نساءً لا يرغبن -عن جَد- في الأمومة، ولا يقولن ذلك –كما يتهمهن البعض- قُصر ديل أو سوء تقدير أو حتى بَطَر على النعمة، وهذا أمر لا يجب التعامل معه باعتباره غريبًا أو كارثيًا، فلكل منا الاختيارات والأولويات التي تناسبه هو دونًا عن غيره، خصوصًا أننا ليس علينا أن نكون نُسَخًا مُكررة من بعضنا بعض. في الوقت نفسه وعلى النقيض هناك نساء أخريات سعين لأن يكُنَّ أمهات بكل ما أوتين من قوة، لكنهن عجزن عن تحقيق ذلك، أيًا كانت الأسباب التي أعاقتهن، وفي حين قد تستسلم بعضهن لأقدارهن ونصيبهن من الدنيا، ترفض أخريات الوقوف عند هذه النقطة والشعور بالحرمان أو تكتيفة الأيدي ما يجعلهن يتغاضين عن فكرة أن يكُن أمهات بيولوجيات، ويرضين بلعب دور الأم البديلة في حياة طفل يتيم، يقومن بتبنيه فيمارسن معه أمومتهن التي حُرمن منها، بينما يمنحنه هو العلاقة الأسرية الدافئة التي يتمناها.

 

رُبما لا نشهد تلك النماذج في حياتنا العادية بمجتمعاتنا العربية المُسلمة لأسباب بعضها ديني وبعضها قانوني أو مُجتمعي، إلا أننا نُشاهده كثيرًا في الأفلام الأجنبية، فنرى عائلات تتبنى بحماس وبمنتهى البساطة، حتى أن بعضهم قد يتبنون أكثر من طفل، لا طفلاً واحدًا. أما على أرض الواقع فقد اعتدنا مشاهدة النجمات الغربيات -بعضهن لديهن أبناء من صُلبهن بالفعل- يقومن بالتبني، ذلك لأنهن هناك في هذا المجتمع البعيد الذي يتهمه الكثيرون بالكُفر والضلال، يؤمنون بكلمات كالإنسانية والرحمة، ويُطبقونها بالفعل، بينما نكتفى نحن في عالمنا (المُتدين بطبعه) بالتنظير والبحلقة دون أن يعجبنا العجب.

 

أحد أشهر وأحدث الأفلام التي استعرضت فكرة التبنّي بشكل مُكثّف ومُدهش فيلم Lion، وهو عمل فني ليس فقط جيدًا من الناحية السينمائية، بل وكذلك الإنسانية، خصوصًا أنه يحكي قصة حقيقية تدور حول صبي هندي يفترق عن أخيه بمحطة قطار، وبسبب بعض المُلابسات سرعان ما يجد نفسه بمدينة أخرى وحيدًا لا يعرف أحدًا، ولا حتى اللغة التي يتحدث بها أهل البلد، فتتلطمه الشوارع ويصبح عرضةً للخطف والخطر، إلا أن القدر يخدمه حين يعثر عليه رجل يتحدث الهندية فيُسلمه للشرطة، التي بدورها تضعه بإحدى دور الأيتام البشعة، قبل أن يخدمه القدر مرة ثانيةً فيتبناه زوجان أستراليان، هو وطفل هندي آخر، بالرغم من معاناة الطفل الثاني من أحد الأمراض التي يصعب تحملها أو التعامل معها.

 

ليعيش الطفلان مع أب وأم يُقدمان لهما كل الإمكانيات والمشاعر، كي يجعلانهما شخصين صالحين في المجتمع، لا يشعران بأي نقص أو اغتراب، وهو ما ينجحان فيه إلى حدٍ كبير، إلا أن الأمر المُثير للاهتمام حقًا كان حين يكتشف البطل أن أمه البديلة لطالما كانت قادرة على الإنجاب والحصول على أطفال من صُلبها فعلاً، لكنها اختارت التبني، لا لشيء سوى لإيمانها بأن العالم به ما يكفي من الأطفال الذين يعيشون حياة آمنة وعادلة مع ذويهم، ما يجعلها تظن أن الأفضل لهذا العالم هو ألا تُنجب به المزيد من هؤلاء الأطفال، بل في أن تبحث عن من حُرموا من أمهاتهم، لتغدق عليهم من فيض الأمومة لديها.

 

هكذا تضرب لنا “سو/ نيكول كيدمان” مثلاً جديرًا بالمُلاحظة للأم البديلة التي تفعل ذلك باختيارها الحُر، وهي التي كان بمقدورها على الأقل أن تتخلى عن الطفل الثاني الذي تبنته، حين اكتشفت في نفس يوم استلامه مشكلته النفسية العويصة التي يعاني منها، والتي كانت دار الأيتام قد أخفتها عنها، لكنها لم تفعل ذلك، واختارت بدلاً عنه أن تتقبَّل ما منحها إياه القدر بشجاعة، مُقتنعةً بكونها قادرة على التعامل مع الموقف، لتظل تبذل -طوال عمرها- قصارى جهدها بمنتهى الحب والصبر، رغم ما ترتب على ذلك من تآكلها من الداخل مع مرور الوقت.

 

موقف آخر يستحق التوثيق.. هو ما فعلته “سو” مع طفلها المُتبنَّى الأول حين قرر البحث عن أمه البيولوجية، وشعوره بحتمية العثور عليها وافتقاده إياها، إذ وجدناها تسانده فيما يفعل وتسعد جدًا بخطوته، مُترجمةً ذلك إلى أنها أحسنت تربيته فلم ينسَ أصله، بل ووصل الأمر حَد إخباره أنها لو كانت تعرف أي معلومات عن أهله أو موطنه لبحثت عنهم بنفسها منذ البداية. لم تقل أن عثوره على أمه يعني أنه لم يعد يحبها، أو أنها لم تُقدِّم له ما يكفيه من الأمومة، لم تخش على مكانتها بقلبه أو تشعر بأي تهديد إذا ما عثر على أمه الأولى بالفعل، وهو إن دل على شيء فعلى أن الأمومة أمر عظيم وهائل أشبه ببوتقة من النور، متى وجدت بقلب امرأة امتلأ عن آخره بها ولم يعرف سواها. 

 

انطلاقًا من هذا المثال، رُبما على الجميع التريث وإعادة التفكير طويلاً قبل اتهام أي أم بديلة بكونها أقل أمومةً عن أي أم بيولوجية أخرى، فالفيصل هو المشاعر التي تتدفق من قلوب النساء تجاه الأطفال، وما يُقدمنه لهم، ليساعدنهم على المُضي قدمًا وتحقيق كل ما يتطلعن إليه بالحياة. والأهم القدرة على الحب والعطاء غير المشروط، متى توفَّر ذلك فازت المرأة -في رأيي- بصَك الأمومة. فالأمر ليس كما يُشاع عنه مَحض غريزة فطرية تتساوى فيها نساء العالم كله، بل هي هبة لم يمنحها الله إلا لنساء بأعينهن، لذا لن يُفاجئني أبدًا أن تكون الجنة تحت أقدام أم بديلة مثل “سو”، أكثر مما هي تحت أقدام أم بيولوجية مثلي، ترى الأمومة عبئًا حَد رفض تكرار التجربة مرة أخرى.

المقالة السابقةسبع قواعد لتسوق أسرع وأسهل
المقالة القادمةخدعوك فقالوا: الجواز مشاركة
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا