أثر الفراشة لا يزول

1703

هل تتخيل أن كلمة أو فعلاً لطيفًا منك يمكن أن يغير عالم شخص ما، يحمله من أقصى درجات الحزن لأقصى مراحل السعادة انتشاءً دون أن تعلم؟! يُسمى ذلك أثر الفراشة، أثر الأفعال الصغيرة للغاية في حدوث تغيرات غير متوقعة.

 

ولكن.. لست هنا الآن لأحدثك عن تلك النظرية العلمية، ولا عن قصيدة درويش التي تحمل نفس الاسم، بل لأحدثك عن بعض ممن تركوا ذلك الأثر، وعنك أنت.. عن أثرك الذي لا يزول حين يقع في نفوس وقلوب من حولك.

 

(١)

لأن فاقد الشيء هو أكثر من يعطيه، كان ذلك العجوز المُعدَم يقتسم فتات طعامه مع قطط الشارع وكلابه، ولا يمانع من اقتسام فرشته المُرصَّعة بالخِرق معها، حتى تظن أنه يملك دفء العالم بين راحتيه.

يموت العجوز، وأكاد أجزم أن تلك القطط والكلاب قد بكوه وداعًا وفقدًا، حتى تظن أن الله خلقه في الأساس لهذه المهمة. بعد أسابيع أمر بالمكان فأجد مُبرِّد ماء وُضِع خصوصًا رحمة ونورًا لروحه، ليروى عطش المارة والقطط والكلاب أيضًا. شخص ما اختار هذا المكان تحديدًا ليمتد به الخير والأثر الطيب، شخص لا يعرف عن العجوز سوى أنه كان يفعل الخير، فأراد أن يوصله بحبل الرحمة.

ماذا لو لم يبادر أحد بترك الأثر الطيب؟ ماذا لو لم يمر العجوز الفقير من هناك؟

 

(٢)

يحدث أن تستيقظ من نومك لبداية اليوم فتبتسم لك طفلتك الصغيرة مُنبِئة ببداية يوم جميل، في طريقك تبتسم بدورك لطفلة صغيرة في عُمر ابنتك تجلس في الكرسي المجاور لك، فتبتسم لك بخجل، تُخرِج يديك من المعطف لتجد بالونًا أحمر صغيرًا عالقًا بأصابعك، بالتأكيد هذا فعل يد صغيرة عبثت بملابسك قبل الخروج. تعطي البالون للطفلة صاحبة الابتسامة الخجولة وتمضي لما يُسِّرَت له. انتهى المشهد هنا بالنسبة لك.

لكنه بدأ للتو في إحدى غرف العمليات، طفلة صغيرة تخضع لعملية دقيقة، تجلس في انتظار تحضير غرفة العمليات، تحمل في يديها بالونًا أحمر لامعًا صغيرًا، وتبتسم امتنانًا قبل أن تغلق عينيها استسلامًا للمخدر ولمصير مجهول، لم يصبح مخيفًا بسبب ابتسامة عابر سبيل وبالون أحمر لامع.

تخيل لو أن المشهد لم يُسيَّر هكذا؟

 

(٣)

أم حديثة، خرجت من اكتئاب ما بعد الولادة للتو، في إحدى ليالي السهر الأولى المُهلكة، تقع أمام عينيها فرصة عمل كانت تتمنى لو تسمح لها الظروف بالالتحاق بها، لكن لأسباب تتعلق بالرضيع وبها، لن تستطيع سوى تأجيل أحلامها مرّة أخرى.. تسأل عن تفاصيل الفرصة بدافع الفضول لا أكثر، أو ربما كانت ترغب في الحصول على إجابة تجعلها تترك الفرصة بصدر رحب، تأتي الإجابة لتزيد من رغبتها في التقديم.. لكنها تستسلم لبكاء الرضيع، ولمشكلاتها الصحية ووظيفة الأمومة.

 

تمر عدة أيام، تُفاجأ بعدها برسالة تحمل عبارة تشجيع وإلهام “قدِّمي وجربي، ادِّي نفسك فرصة”، تبتسم وفي داخلها تحمل ألف سؤال وهاجس، لكنها تقرر في النهاية خوض التجربة وإعطاء نفسها فرصة مغلفة بالقلق والحماس، تتقدم للوظيفة وتذهب لمقابلة العمل لا تحمل إجابات نموذجية للفوز بالوظيفة، لكنها تحمل داخلها كلمات تشجيع ومساندة كافية للشعور بالطمأنينة. تنتهي المقابلة وتخرج من مبنى العمل، ترى في الشارع  أمًا شابة مع رضيع صغير لا تعرفها، يبدو عليها القلق والوهن والارتباك أيضًا، فتخبرها بعفوية وهي تبتسم “متخافيش شوية وقت بسيط وهترتاحي”، تبتسم تلك الأم الشابة المرتبكة وتمضي.

لا تعلم لمَ فعلت ذلك، شيء ما دفعها لتقول تلك العبارة للأم المرتبكة، ليتها تطمئن قليلاً الآن.

تمر عدة أيام أخرى وتتلقى مكالمة هاتفية من جهة العمل تخبرها بأنها حصلت على الوظيفة، لتبدأ مغامرة جديدة رائعة.

تخيل ماذا لو لم تتلق تلك الرسالة الطيبة؟ ماذا لو لم تتلق تلك الكلمات المُشجعة التي استقرت في قلبها تمامًا في أكثر أوقاتها قلقًا وخوفًا؟

 

(4)

أتخيل لو أن العالم يخلو من الطيبين؟

ذلك الذي يعطيك ابتسامة طمأنة بلا مقابل في معمل للتحاليل الطبية، وكأنه اطَّلع على خبايا قلبك دون حديث، أو الذي يفسح مكانه في المواصلات لطفل أو سيدة مسنة أو امرأة حامل دون أن تطلب. الذي لا ينظر لوقوع الكارثة، بل لكيفية النجاة منها بيقين الأنبياء. الذي يربت على كتفيك ليعيد ترتيب فوضى المشاعر داخلك دون أن يدري ودون أن تطلب. الجارة التي توزع الحلوى على الصغار رغم أنها ممنوعة منها بسبب المرض، لكن حقيبتها لا تخلو من البنبون الذي يرسم البسمة على شفاه صغار الحي.. فتشعر بحلاوته يسري في فمها وقلبها. أو من يضع الفتات للطيور صباحًا ويسقي تلك الشجرة المنسية في الطريق يوميًا، فلا تذبل وإن ظننت أنها ذابلة لا محالة. من يبتسم لك بصدق ويخبرك أن كل شيء سيكون على ما يرام، فتطمئن وتسكن وكأنك صعدت توًّا لسفينة نوح ناجيًا من الطوفان. من يمد لك يديه ليريك الجانب المضيء في عتمتك، فتزهر من جديد.

 

أتخيل لو أن كل هؤلاء الطيبين لم يمروّا من هنا أو لم يتركوا الأثر، لم نكن لنطمئن أو نشعر بالألفة، ستذبل نصف الزهور وتختفي نصف الابتسامات ويشيخ نصفها الآخر.. وسيصير الوطن منفى مُرًّا بلا قطعة سكر واحدة. فقط أثرهم هو ما يجعل اللطف يستمر في العالم.. فقط أثرهم هو ما يدوم حتى بعد رحيلهم عن العالم.

المقالة السابقةاسطور عودة الغائب أحد أيام ديسمبر ما حقيقتها
المقالة القادمةسنة أولى أم العيال
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا