أبي.. أنت خنتني

998

 

بقلم/ لبنى الخواجة

 

نعم أبي..

عندما تركتني بلا سند وهجرت أمي لامرأة أخرى خنتني.. عندما تركتني بلا حضن أحتمي به من قسوة الحياة وأرتمي فيه ليحصنني ضد غدر البشر خنتني. عندما تركتني وفضلت عليَّ احتضان أبنائك من تلك الأخرى ولم تلتفت خلف كتفك لترى من تركتها هناك بلا ملاذ ولا مأوى، وهي ما زالت تحبو بين طرقات الحياة ولم يشتد عودها بعد لتقف.

 

خنتني أبي وغدرت بي عندما تركت يدي المتشبثة بك تعانق أصوات الرياح وتتعلق بها.

خنتني عندما احتجتك بجانبي وأنا أشب بعيدًا عن طوق الطفولة، وأبحث عن تلك اليد التي ستمسك بي كلما تعثرت.

 

خنتني فتركت خيانتك بي ندوبًا لا تندمل، جعلت مني هذا الحطام الذي لا تعرف مفرداته معنى النسيان والتسامح والمغفرة، حولتني لهذا الكائن المتشكك الخالي من الحياة. حولتني خيانتك لي إلى حطام فتاة.. ظل إنسان بلا حياة.

 

لم أستطيع أن أغفر لك تركك لي، ولم أسامح أمي عندما غفرت لك وعادت إليك بعد كل هذا الهجر، عادت لك من أجلنا، وبرغم هذا لم أسامحها ولم أستطع أن أغفر لها مسامحتها لك والعودة إليك أنت.. أنت يا من خاننا.

 

نعم.. بعد أن تركتك الأخرى لم تستطع عودتك أن تشفي كسور روحي ولم ترمم شروخ قلبي، بل ازدادت شروخ قلبي وأصبحت ندوبًا وأخاديد لا تلتئم. لم أستطيع أن أغفر لك ولا أعلم كيف استطاعت أمي أن تعود إليك وتغفر لك وتصفح عنك! لا أعلم من أين لها هذه القدرة على مراعاتك في مرضك الذي لم يحرك في أي مشاعر للغفران! لا أعلم كيف لها أن تظل بجانبك بعد خيانتك لنا بلا سبب!

 

لم تستطيع روحي أن تُشفَى من ندوبها، ولم يحرك في رحيلك أي شجن أو حزن، لا أعلم لِمَ.

عندما خنتني وتركتني ونزعتني من حضنك، وتركت يدي المتشبثة بك، نزعت معك روحي من مقلعها، قتلتني وقتلت بداخلي أبوَّتك لي. تركتني خواء، ذرات بشرية تذروها الرياح، كائن لم يستطع أن يتجاوز هذا ويعيد ترميم نفسه ويجمع شظايا روحه ويجبر كسور قلبه.

 

أصبحت لا أثق في أحد، حتى ذاتي، لم أستطع فعل هذا برغم محاولاتي لإجبار نفسي وإقناعها بأنها تستطيع أن تتخطى هذا وتتجاوزه، لقد جعلتني خيانتك لي ورحيلك عنا كائنًا شكاكًا لا يستطيع أن يثق في أي رجل على الإطلاق، وبرغم محاولاتي لإقناع نفسي بالتجاوز فإن ما رسخ أقوى من أن يزول.

 

كم حاولت أن أقنع نفسي أنني أستطيع الثقة في الرجال والاطمئنان لهم! فأرغمتها مرات ومرات تحت إلحاح أمي بالارتباط، ولكن هيهات، لم تصمد ذاتي، وكانت أطول فترة ارتباط وثقة لي مع رجل لم تتجاوز بضعة أسابيع، ومنها ما كان ينتهي بعد بضعه أيام.

 

لم أستطع أن أقنع ذاتي بأنها تستطيع التجاوز والنسيان وتغفر، ولكن أجدها دومًا تعود لذات النقطة. لا أعلم لمَ الأبناء وخصوصًا الفتيات لا تغفرن لآبائهن تركه لهن وهجره لهن، واعتبار هذا غدر لا يغتفر!

لا أعلم لمَ تظل تلك المرارة عالقة بروح الفتاة وتستوطن قلبها تجاه أبيها، حتى وإن عاد ليكون أبًا لها مرة أخرى!

 

لا أعلم كيف استطاعت أمي تلك المرأة التي تركها زوجها وغدر بها من أجل أخرى أن تتجاوز وتمحو سنوات الهجر والظلم، وتعود له مرة أخرى، بل وتعود لترعاه أكثر مما كان من قبل، تعود من أجلنا ولكنها تنسى أننا لا نريد أن نعود له. ربما أنا من لا تريد عودته ولا تستطيع مسامحته وأن تغفر له ما سلف من هجر وغدر وخيانة لى كابنة ولأمي كزوجة.

لم أستطع أن أكون مثلها فأتجاوز وأستمر في الحياة وكأن شيئًا لم يكن، وأعود لأحب هذا الرجل وأرتبط بآخر ليشاركني الحياة كغيري من الفتيات.

 

ولكن لم أستطع أن أتجاوز، ولم أستطع أن أمحو هذا من نفسي، ولم أستطع أن أثق بأي رجل آخر، وحتى وإن أجبرت نفسي على الارتباط لم أستطع أن أكمل الأمر، وبرغم تكراري لهذا مرات ومرات لكني لم أستطع ترويض ذاتي للتجاوز، وأدركت أن ما مات في لن يحيا مرة أخرى.

 

نعم لم أستطع أن أنزع آثار خيانتك يا أبي وأعيد بناء الثقة بالرجل مرة أخرى، لم أستطع أن أمنع نفسي من شكوكها وظنونها بأن ما حدث منك وأنت أبي وأنتمي إليك، لن يحدث ممن هو ليس بأبي ولست بقطعة منه.

 

لا يعلم أي أب ما يفعله بطفلته عندما يقرر أن يهجر ويترك أمها، فهو لا يترك زوجته وحسب، بل يقتلع روح طفلته ويشوه كينونتها.

لا يعلم الأب أنه مهما حاول بعد عودته وبعد مضي تلك السنين أن يمحو ما كان، لن يستطيع، لأنه بكل بساطة حوَّل هذا المخلوق الصغير إلى كائن مشوه النفس.. ميت الروح.. منزوع الحياة.

 

لا يعلم أي أب أن ابنته التي نزع حضنه منها في يوم من الأيام لن تغفر له ما كان، برغم غفران أمها له ما فعله بها، ولكن من كانت أناملها الصغيرة تتشبث برقبته لن تغفر له.

لن تغفر له أنه حولها لهذا المسخ الآدمي غير القادر على الحياة أو التعايش كشخص طبيعي بلا عقد.

 

لا يعلم أي أب ما يعنيه هو لابنته، فهو ليس أبًا لها فحسب، بل هو حبيبها وأميرها وسندها وحائط سد لها، حضنه درعها وسكنها ومسكنها وملاذها وملجأها الذي تحتمي فيه، هو أمانها وأمنها ومأمنها وإيمانها بالحياة، هو الحياة وبدونه لا حياة.

 

كم حاولت أن أقنع نفسي أنني أستطيع الثقة في الرجال!

 

المقالة القادمةاللمسات الشافية
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا